تحدي القراءة “خير جليس”: حين تصبح الكلمات جسراً نحو الذات والمستقبل

مدة القراءة: 5 دقيقة

مقدمة: فعل مقاومة ثقافية في زمن السرعة

في خضم عالم رقمي يموج بالمعلومات السريعة والمحتوى اللحظي، يبدو الإبحار في أعماق كتاب فعلًا من أفعال المقاومة الثقافية الهادئة. هذا هو بالضبط ما نجحت “مؤسسة العزم” في ترسيخه من خلال النسخة الثانية من تحدي القراءة “خير جليس”، الذي يختتم رحلته الملهمة غدًا، الخميس، التاسع من أكتوبر ٢٠٢٥، في حفل تتويج يُنتظر أن يكون حصادًا لثمار العقول والقلوب. لم يكن هذا التحدي مجرد دعوة لليافعين للقراءة، بل كان مشروعًا متكاملًا لإعادة تعريف علاقة جيل بأكمله مع الكلمة المكتوبة، وتحويلها من واجب مدرسي إلى رحلة شغف واكتشاف.

ليست مجرد مسابقة.. بل فلسفة متكاملة

يكمن نجاح “خير جليس” في أنه تجاوز المفهوم التقليدي لمسابقات القراءة. لم يكن الهدف هو إحصاء عدد الصفحات المقروءة، بل قياس الأثر الذي تتركه كل صفحة في نفس قارئها. انطلقت المبادرة من فلسفة عميقة تؤمن بأن القارئ الحقيقي ليس من يستهلك الكتب، بل من يتحاور معها ويتغير بها. لقد واجه المنظمون بوعي أسئلة العصر الراهن: كيف يمكن للكتاب أن ينافس جاذبية الشاشة؟ وكيف نكسر الصورة النمطية التي قد تحيط بالقراءة وتصفها بالملل؟ كانت الإجابة هي تصميم تجربة غامرة، تجعل من القراءة مغامرة شخصية لكل مشارك.

آليات مبتكرة لجيل رقمي: من القراءة إلى الإبداع

لتحقيق هذه الرؤية، لم يكتفِ التحدي بتوزيع قائمة كتب. لقد بنى جسرًا ذكيًا بين عالمي القراءة التقليدي والرقمي. كانت الآلية تتطلب من المشاركين ليس فقط قراءة الكتاب، بل تحليله وتلخيصه، ومن ثم تسجيل هذا الملخص صوتيًا. هذه الخطوة الأخيرة كانت بمثابة نقلة نوعية، فهي لم تصقل مهارات التحليل والنقد لدى اليافعين فحسب، بل منحتهم الثقة للتعبير عن أفكارهم بصوتٍ عالٍ وواثق. لقد حوّل التحدي القارئ الصامت إلى صانع محتوى معرفي، يتحدث ويناقش ويشارك رؤيته، مستخدمًا الأدوات التي يألفها هذا الجيل.

أبطال يروون الحكاية: أصوات من قلب التحدي

تتجلى قصة النجاح الأعمق في التجارب الحية للمشاركين أنفسهم، الذين دخلوا التحدي بأهداف وخرجوا منه بتحولات لم تكن في الحسبان.

  • نور.. من الخجل إلى شغف لا ينطفئ: تجسد قصة نور التحول المذهل الذي يمكن أن تحدثه القراءة. دخلت التحدي كشخصية هادئة وخجولة، لتتحول خلال أسابيع إلى قارئة نهمة تلتهم كتابين أسبوعيًا. لم تكتشف نور عوالم جديدة في الكتب فحسب، بل وجدت في متطوعي المكتبة قدوات ملهمة. أصبحت المكتبة عالمها، والكتب نافذتها التي تطل منها على الحياة بثقة أكبر وشغف لا حدود له.
  • محمد.. رحلة مستمرة من العمق والنضج: بالنسبة لـمحمد، لم يكن التحدي تجربة عابرة. فمشاركته للمرة الثانية على التوالي تُظهر أن “خير جليس” ليس مجرد حدث سنوي، بل هو رحلة نمو مستمرة. يقول محمد إن كل دورة تزيد من عمق إدراكه لنفسه، وتغير من طريقته في التفاعل مع النصوص. لقد انتقل من مجرد قراءة الكلمات إلى استيعاب الرسائل الخفية، مما جعله أكثر نضجًا في تفكيره ورؤيته للعالم.
  • لين.. حين تكون الجائزة الحقيقية هي النفس: دخلت لين بهدف المنافسة وزيادة ثقافتها، لكنها اكتشفت أن الجائزة الكبرى كانت شيئًا آخر تمامًا. تقول: “الهدف كان الفوز بالمرتبة الأولى، لكن النتيجة كانت الفوز بنسخة أفضل من نفسي. لقد كانت رحلة أعمق بكثير مما خططت له.”
  •  
  • جنى.. القراءة كأداة لصناعة الحضارة: ومن منظور أوسع، ترى جنى أن القراءة تتجاوز المنفعة الشخصية لتصبح أداة تأثير مجتمعي. تعتبر جنى أن “القراءة هي أداة من أدوات التأثير لصناعة الحضارة الحقيقية.” هذا الوعي المتقدم يعكس كيف نجح التحدي في زرع إحساس بالمسؤولية لدى اليافعين، ورؤية أنفسهم كعناصر فاعلة في نهضة أمتهم ومجتمعهم.
  • ربا.. نحو القراءة الواعية: أما ربا، فقد قدمت رؤية فلسفية ناضجة، مشيرةً إلى أننا “ننال من القراءة أكثر كلما وعينا بما نريده من ورائها.” لقد تحولت تجربتها من قراءة عشوائية إلى قراءة هادفة، تبحث فيها عن إجابات لأسئلة محددة، مما ضاعف من قيمة كل كتاب وقرّبها أكثر من فهم نفسها والعالم من حولها.
  • فاديا.. اكتشاف الصوت والقوة: وفي قصة أخرى ترمز إلى جوهر التحدي، تبرز تجربة فاديا والعديد من المشاركين الذين كانوا يعانون من الخجل. إحدى المشرفات تروي قصة مشاركة كانت بالكاد تتحدث، لكنها بعد قراءتها لكتاب عن الثقة بالنفس، قدمت تلخيصًا صوتيًا كان من أقوى المشاركات وأكثرها تأثيرًا. لقد اكتشفت صوتها الخاص بين صفحات كتاب، وهذا هو التمكين الحقيقي.

خلف الكواليس: شغف يواجه التحديات

وراء هذا الأثر الكبير، يقف فريق من المشرفين والمنظمين في “مؤسسة العزم” الذين أداروا التجربة بشغف وتفانٍ. لقد عملوا على اختيار قائمة كتب متنوعة توازن بذكاء بين المتعة والفائدة، وتخاطب اهتمامات اليافعين المختلفة من الخيال العلمي إلى الروايات الواقعية وكتب تطوير الذات. لقد كانوا “صنّاع التجربة” الذين هيأوا البيئة المثالية لكل بذرة إبداع لتنمو وتزهر.

حصاد الغد.. نظرة نحو المستقبل

مع إسدال الستار على نسخته الثانية، يترك تحدي “خير جليس” إرثًا يتجاوز أسماء الفائزين. الإرث الحقيقي هو أكثر من 82 شاب وفتاة باتوا ينظرون إلى الكتاب كصديق ومستشار ومصدر إلهام. إنهم الشباب الذين لن يترددوا في فتح كتاب بحثًا عن إجابة، أو الهروب إلى قصة حين يضيق بهم الواقع. غدًا، في الحفل الختامي، لن يتم تكريم الفائزين في مسابقة فحسب، بل سيتم الاحتفاء بجيل يقرأ، جيل يبني مستقبله بوعي وأمل، كلمة بكلمة، وصفحة بصفحة.

Scroll to Top